الخميس، 5 ديسمبر 2013

مئذنة الشحم بعيون ابناءها - نصر الدين البحرة

صورة مباشرة لحيّ دمشقي في الأربعينيات* ـــ نصر الدّين البحرة

في محاضرة القاها الاستاذ نصر الدين البحرة في مكتبة الاسد بدمشق في 29-12 1993, رسم فيها بقلمه الساخر خفيف الظل لوحة بانوراميةلعشقه المزمن دمشق الشام ودرتها مئذنة الشحم بدورها وشخصياتها وخصائصها .







حين غادرنا منزلنا في حي مئذنة الشحم –وهو في الحقيقة منزل جدي لأمي- كان المكان قد ضاق بنا تماماً، فقد كنا خمسة مع أمي، وسادسنا أخي الأكبر الذي كان قد تزوج منذ سنوات، وصار عنده ثلاثة أولاد. وفي المنزل إحدى خالاتي وزوجها وأولادها، وخالتي الأخرى وزوجها.. وجدتي.. وكان ثمة غرفة صغيرة في الأعلى احتلها شقيق جدتي أيضاً.. وهناك غرفة في الطابق المتوسط، أجّرتها خالتي الثانية لرجل وامرأته.. كانا جارين ظريفين لطيفين لا ثقلة لهما.‏
ولم ننتقل، كما صار يفعل الكثيرون، إلى دمشق الجديدة الغربية، فقد بقينا داخل المدينة القديمة، حيث لبثنا سنوات في ذلك البيت في حي القيمرية.. وكان في الأصل جزءاً من بيت آخر كبير، مؤلف من جزأين، كما هي حال البيوت الكبيرة، السلاملك والحرملك. ويبدو أننا أقمنا في السلاملك..‏
كان ذلك أواخر الأربعينات. ولئن كان كثيرون من أهل هذه الأحياء والحارات قد لبثوا قاطنين فيها.. فإن كثيرين أيضاً، تركوا دورهم، وانتقلوا إلى الأحياء الجديدة في المدينة، مخلفين المكان للقادمين من الريف، وخاصة أهل القلمون.. وقد نزل هؤلاء في تلك البيوت الشاغرة..‏
حتى ذلك الزمن، لم يكن شيء من معالم الحي قد تغير.. وإن تكن هوية السكان الاجتماعية، قد أخذت تتغير.. يومذاك لم أكن أتصور أن غيبتي عن حينا الأول، حيث مسقط رأسي، والغرفة التي ولدت فيها –وهي ما تزال على حالها حتى الآن- سوف تطول حتى تنوف على ربع قرن.. بل قل: أكثر من ثلاثين سنة..‏
صحيح أننا كنا نمر بالحي مرتين في الأكثر كل سنة، صبيحة اليوم الأول من عيد الفطر وعيد الأضحى، فنزور عمتي معايدين، ونشرب فنجان القهوة ونتناول الحلوى.. ثم نمضي. وأنا شخصياً، مرت بي ظروف قاهرة، منعتني سنوات حتى من زيارة قبر والدي في تربة الباب الصغير والمرور لتهنئة عمتي بالعيد، وهي التي كنت أشم منها وحدها رائحة المرحوم أبي..‏
ولكن هذه الزيارات جميعاً لم تكن لتعني أن الواحد منا، قد استطاع أن يعود إلى تلمس الحبل السري، أو أن يراجع الذكريات الغافية، الغائبة بعيداً في الزمان والمكان..‏ 




.. وعندما هاج بي الحنين ذات يوم إلى مرابع الطفولة، فقد كنت أعلم أن الأمر يحتاج إلى عدة زيارات. تماماً مثلما يحدث للحاج الذي يشعر بأن حجة واحدة لا تكفي..‏
وإذا كانت الأيام التالية، قد مكنتني من أن أمعن في البحث والتقصي، إلا أن انطباع الزيارة الأولى، ظل هو المهيمن والمسيطر على لحظاتي النفسية جميعاً.‏
أردت قبل كل شيء، أن أطمئن على معالم الحي العمرانية، ففوجئت بأن بعضها قد تغير تماماً، وكان ذلك قد حدث بالطبع، قبل السبعينات إذ شمل مرسوم أصدره الرئيس حافظ الأسد، دمشق القديمة داخل السور، بالحماية من الهدم.‏
وكان في الحي واحد من خانات دمشق القديمة، هو "خان النحاس"، وقد ظل حتى الأربعينات يقوم بوظيفة الخان التاريخية: الطبقة الأولى فيه اصطبلات للدواب ومخازن للبضائع.. والطبقة الثانية لإقامة النزلاء..‏
وأذكر أن أحد أركان الخان كان يشهد نحر الجمال، لتسلخ من ثم ويبيع لحمها جزارون خاصون في الحي.‏
.. ولقد نهض مكان الخان والدكاكين والحوانيت المجاورة جميعاً، بناء حديث ضخم، ألقى بظلاله الثقيلة، على كل المواضع التي كانت تشهد جزءاً هاماً من نشاط الحي التجاري: أبو شاكر الحلاق الذي كان أول إنسان في هذا الحي أضع رأسي بين يديه. وإن أنسَ لا أنسَ كرسيه الخشبي الأنيق، وتلك السنّادة الخشبية الضيقة المتطاولة التي تنزلق على مسننات حسب ارتفاع هامة الزبون، حتى إذا استقرت أرخى رأسه نحو الوراء مستريحاً على طراحة سوداء صغيرة. ويا الله.. كم كان يطربني صوت السنّادة وهي تنزلق.. في تكتكة لطيفة. وعند الباب كانت تتدلى حبال تسد المدخل تماماً، وفي كل منها قطع من الخيزران بطول إصبع صغير، وبين الواحدة والأخرى خرزة ملونة. وكان ذلك لمنع دخول الذباب إلى الدكان.‏
وكان أبو شاكر يرتدي قنبازاً حريرياً من نوع الصاية، ويلف حول وسطه زناراً، حريرياً هو الآخر.. مثلما كان بعض الرجال يرتدي في أواخر القرن الماضي ومطلع هذا القرن.‏ 

.. وغير بعيد عن أبي شاكر، كانت دكان أبي صادق، وقد حفلت برفوف خشبية على بعضها قطرميزات فارغة.. وبعضها الاخر كان شاغراً تماماً، إلا من القطط التي كانت تتناثر في جوانب الدكان..‏
حسبت في البدء أن أبا صادق بائع قطط، ولكنهم صححوا لي أنه من أهل الله، وأنه أخذ على عاتقه العناية بقطط الحي جميعاً.. وهناك من أجل الخير من يعينه في شأنه هذا. كانت دكان نجارنسيت اسمه، لكني أذكر أنه كان يُعنى بصناعة إطارات الصور: "البراويظ" وقد صنع لي مرة إطاراً صغيراً وضعت فيه صورة والدي الذي رحل منذ سنوات، ومازلت أحتفظ حتى الآن به.. وبالصورة ذاتها.‏ 





.. والتالي كان عجوزاً مقلع الأسنان لكنه يضع على رأسه عمّة من نوع "اللام ألف" الأغباني وينادي باستمرار على بضاعته من الفواكه بصوت متقطع متهدج. وكان متخصصاً ببيع الفاكهة البائتة التي حال لونها قليلاً وانزاحت قشرتها. ومن أجل الترغيب في شرائها فقد كان ينادي هكذا: "المعاين.. حلو" –والمعاين تعني الفاسد قليلاً-.‏
أما ابو فايز الزيبق، فقد اختص ببيع الفحم والدقّ للحي كله، وهما زاد المناقل التي كان الدمشقيون يفتنّون في صنعها من النحاس، الفحم يشعل في باحة الدار، في وعاء خاص يدعى "الشعالة"، في انتظار أن ينفث غاز الفحم السام ويغدو جمراً، وحينئذ يوضع الدقّ وتحته قليل من الرماد: "الصفوة" وفوقه الفحم المتوهج، فإذا ذوى وترمد، حان موعد اشتعال الدقّ. وكانت سهرات الشتاء تتم حول المنقل، وعليه أو في جانب من الجمر أو الدقّ تُغلى القهوة ويصنع الشاي.. وفي بعض الأحيان البطاطا.. وربما: البيض..‏
.. أما المدفأة، فكانت أكثر ما تستعمل عند الصباح، زادها الحطب، من خشب المشمش أو الزيتون.. على أن في الدار غرفة صغيرة يخزن فيها الحطب، منذ أوائل فصل الخريف. وكنت أرى الحطابين، يتجولون في أنحاء الحي، وأمامهم الجمال المحملة بجذوع الأشجار وعلى أكتافهم الفؤوس الحادة لتقطيعها.. وكانت هذه مناسبة جميلة لنا نحن الصغار، فنتجمع حول الحطاب، لنراه كيف ينيخ جمله على الأرض، وينزل الجذوع المربوطة بحبال على جانبي السنام.. ثم يبدأ تقطيعها وتكسيرها، قطعاً في حجم تستوعبه المدفأة.‏
.. أذكر أن أمي رحمها الله، كانت تغرينا بالاستيقاظ باكراً، بعد أن صحت قبلنا بزمن، بأن تقول: إنها أعدت لنا "حريرة" لا تزال حارة.. على المدفأة.‏ 

كان ذاك هو الجانب الشرقي من خان النحاس.. أما الجانب الجنوبي، المطل على الشارع الرئيسي، وهو جزء من الشارع المستقيم الممتد من باب الجابية حتى باب شرقي، فقد اختفى أيضاً بطبيعة الحال.. ولكن بعض شاغليه ما يزال في الذاكرة..‏
أولهم: أبو داغر التوتونجي، وكان هذا اسم بائع التبغ –وهي كلمة تركية: توتونجي بوجهه المهيب وشاربيه الأبيضين وقامته الباذخة وطربوشه الأحمر الطويل لا يفارق رأسه.. وإني لأراه وسط دكانه الصغيرة وأمامه تلك الرخامة البيضاء النظيفة..‏
.. يليه "طيفور" وإخوته.. باعة "العرقسوس".. وكان طيفور أحدب في أواسط العمر، وقد غطى شفته العليا شاربان كثان أسودان.. ولم تكن الابتسامة تفارق وجهه. أما السمان الذي يحاذيه فلست أدري لماذا كان اسمه: "أبو رسلان شرّ" مع أنني لم أره في أي موقف شرير على الإطلاق.‏
ومهما يكن من أمر، فإن مثل هذه التسميات كانت شائعة في حيّنا. فإن صاحب الفرن القريب، وهو من أكبر أفران الحي، كان اسمه "فتوش" وهي أكلة دمشقية معروفة. وثمة حمصاني عرفناه باسم "أبو الفار".. وآخر كان اسمه "أبو منصور الضبع"..‏
وهناك واحد من أقربائنا، كان يدعى "أبا ضلال" وبائع الخضار تحت الجامع اسمه "أبو عبده شدّو مطّو" وبائع المخلل قبالته سموه "أبو أكرم الزيق ميق". أما بائع "الغلينا" –وهو الذي يقلي كلاوي وبيض وكبد الخروف- فإن اسمه هو "مخ الشاكرية" وكانت إحدى رجليه مقطوعة عند الركبة، فينتقل بواحدة صناعية يعرج بها.‏
.. وبين الدكاكين التي كانت عند الجانب الجنوبي من الخازن دكان "أبو رعد". ولم يكن عنده شيء آخر سوى البيض المسلوق.. وبعض الخبز.. بلى: دكان بكاملها لبيع البيض والخبز فحسب.‏
.. ومن طريف الأمور أن أحد جيرانه كان رساماً، لكنه كان يبيع البن أيضاً. ولكن أي رسام هو؟ كان المرء يأتيه بصورة شمسية أو ضوئية –والتصوير الضوئي كان قليلاً في ذلك الزمن –فيغطي سطحها بمربعات متناهية الصغر.. ثم ينقل الملامح حسب تلك المربعات، إلى رقعة كبيرة، فوق حامل ثلاثي يحتل صدر الدكان، وبعد ساعات يعطي الصورة الكبيرة.. طبق ملامح الأخرى الصغيرة تماماً.. وفي الذاكرة وجهه البيضوي الأسمر، يتوسطه أنفه الأقنى، وتحته شاربان أسودان دقيقان وخطهما الشيب قليلاً.. وفوق عينيه نظارة طبية سوداء أنيقة. وكنت أشعر أن وجوده نشاز وسط تلك الأوركسترا الشعبية المتناغمة.. ولعل هذا هو السر في أن إقامته لم تستمر طويلاً في الحي..‏
بين المعالم التي تبدلت في الحي عدة أبنية متجاورة هدمت جميعاً، ونهض مكانها بناء حديث احتلته مدرسة ابتدائية.‏
كان ثمة كُتّاب أنشأه أحد أبناء الجالية الجزائرية التي هاجرت إلى دمشق في أواسط القرن الماضي، بعد أن نزح الأمير عبد القادر الجزائري واختار الإقامة في دمشق. وقد أطلق على كتّابه ذاك اسم "مدرسة الإرشاد والتعليم".‏
وفي أحد فصول الصيف، وضعتني أمي في هذا الكتّاب، وكنت قد أنهيت الصف الثاني الابتدائي.. ولكني لم أمكث طويلاً فيه.. وكانت الأمور تسير فيه، مثلما كانت قبل ظهور المدارس الابتدائية في دمشق: شيخ يشرف على الصف ثم يغيب.. وعريف، من صف متقدم يتولى تعليم التلاميذ. وثمة العصا الطويلة، والجلوس على حصيرة من القش على الأرض، ولوح الأردواز... الخ..‏
.. ومن الدور الملاصقة المهدومة دار البوارشي، وقد حول صاحبها جزءاً منها إلى مصنع صغير للسكاكر والكرميل. ومن أبناء هذا الرجل الصحفي السوري بشير البوارشي العامل في صحافة الخليج.. وكان شريكاً لنا، بل مموّلاً، لمجلة طلابية أنشأناها عام 1952 باسم "الشعلة" وصدرت منها عدة أعداد.‏
.. ودار الأرناؤوط. وكانت هذه نموذجاً ممتازاً للبيت الدمشقي، أعرفها جيداً لأن أحد أبنائها كان صاحباً لنا، رغم أنه يكبرني ببضع سنوات، هو المرحوم محمد الأرناؤوط: ينفتح باب الدار على دهليز طويل معتم يفضي إلى باحة الدار الواسعة، تتوسطها فسقية ماء تتدفق وسط مياه الطالع.. وفي جانبها الشرقي المطبخ والحمام ودورة المياه، وعند الجنوب تتصدر غرفتان بينهما ليوان "إيوان" تتوسطه مرآة أنيقة تدعى في دمشق "قنصلية".. وعند الزاوية الجنوبية الشرقية درج ينتهي إلى غرف الدار العليا المخصصة للمعيشة في الشتاء..‏ 
وفي الجهة الشمالية من الباحة كانت القاعة الكبرى. تدخلها من باب خشبي مشغول، فيواجهك ممشى ضيق، في نهايته فسقية ماء تنهل من الطالع ذاته، وعلى جانبها مصطبتان كبيرتان عاليتان.. في صدر كل منهما "كتبيات" خشبية مشغولة ومرسومة، وقد صفت عليها مزهريات الصيني والكؤوس الكريستالية والزبادي والكازات الزجاجية الأنيقة. أما السقف، فهو عجمي مشغول بعناية، ومزخرف بأشكال طبيعية نباتية.. وفي الحق فإن جدران الغرفة كلها كانت مغطاة بالخشب المزخرف، تتناثر في أنحائها أبيات شعرية مكتوبة بخط فارسي جميل.‏
وقبالة مدرسة الإرشاد والتعليم كان المدخل الغربي لدار نظام التي يجري ترميمها الآن.. وقد أذهلني يوم رأيتها في الثمانينات، أن محمصة للقضامة والبزر والفستق قد احتلت مدخلها.. أما الأقسام الأخرى، فقد كانت خربة مهجورة ينعق فيها البوم والغراب.. علماً أن هذه الدار الكبيرة قد أنشئت في أواخر القرن الثامن عشر، ولقد رأيت لها صورة حفر "غرافيك" وضعها فنان غربي زار دمشق في أواسط القرن التاسع عشر.. وبدت فيها باحة الدار الكبرى، وبعض غرفها..‏
ولم يكن هذا هو المصير المؤسف لدار نظام وحدها، فتلك هي دار "آل الكسم" ودار "آل الصواف" ودار "آل القباقيبي".. وسواها كثير..‏
وكانت هذه الدور جميعاً تطل على جادة ناصيف المنحدرة من مصلبة "مئذنة الشحم" باتجاه الجنوب.. نحو حي الشاغور.‏
وعند مطلع هذه الجادة كان جدار المسجد الشرقي –مسجد مئذنة الشحم- تواجهه تلك المئذنة التاريخية الجميلة التي أخذ الحي اسمه منها.. ويقال أيضاً إن الاثنين قبسا اسمهما، من "وليٍّ" كان في الحي ويدعى "الشحمي". وقد سمعت جدتي تتحدث مرة أ نها نهضت عند الصباح، واتجهت نحو البئر الكباس كي تتوضأ لتصلي صلاة الصبح، فإذا هي ترى هذا الولي بثياب بيضاء، فحياها ثم لم يلبث أن اختفى. قالت جدتي: إنها لم ترتعد أو ترتعش بل فرحت وتفاءلت واستبشرت.. فما أندر ما يظهر الشحمي أمام أحد.. وإن ظهوره ليؤكد أنها امرأة صالحة.‏
.. عند أسفل جدار الجامع كان اثنان من باعة الخضار، أحدهما المذكور آنفاً: "أبو عبدو.. شدّو مطّو" والثاني "جميل الفحام" وجزار يدعى "المشاعلي" –وربما كان جده من حملة المشاعل فاكتسبت الأسرة هذا الاسم –ثم.. "أبو سعود الدقاق" ومهنة "الدقاق" هذه من المهن التي انقرضت في دمشق، وكان صاحبها يدق "الكتكت" وهو قشر القنب.. يضع أمامه جذع شجرة غليظة قصيرة، ويدق عليه بفأس صغيرة ذلك القشر حتى يصبح نتفاً صغيرة تُخلط بمائع الكلس لتقويته ثم تطلى به جدران البيوت، فتخفي الطين من تحتها، وتكسب الجدران منظراً أبيض لامعاً.‏
وأود هنا أن أتوقف قليلاً لأتحدث عن المنزل الذي يلي هذه الدكاكين، لأنه نموذج آخر من بيوت دمشق. كان صاحب البيت هو الخباز "فتوش" نفسه، وقد دخلته كثيراً لأن صلة قربى تربطني بأهله، ولأن ابن صاحب الدار كان من زملاء الدراسة: ثمة خلف الباب الدهليز المعروف، ينحدر قليلاً، نحو أرض الدار، وهي صغيرة نسبياً، وفيها غرفة الضيوف والمطبخ والحمام ودورة المياه.. وفي جانب منها درج حجري طويل، تحته فسقية ماء صغيرة، يفضي إلى عدة غرف في الأعلى.. يجيء عدد منها فوق الدكاكين المذكورة. وقد انتبه الرحالة ابن جبير منذ قرون طويلة إلى هذا التركيب في بيوت دمشق، وله عنده تفسيره الاجتماعي والعمراني..‏
.. وإذ نتجاوز باب هذه الدار، نصل إلى دكان "عبده الحلاق"، وكان هذا مختصاً بقلع الأضراس والأسنان إضافة إلى مهنته، وكان يختلف بذلك عن حلاق الحي الثالث "أبو ياسين الهامش" الذي كان مختصاً بالمداواة وبيع "العلق" وتعليقه أحياناً..‏
أما الدكان التالية وهي الأخيرة في جادة ناصيف، فقد كانت للمبيض. والتبييض، هو إحدى المهن الهامة في دمشق القديمة، فقبل استخدام "الألومنيوم" في صنع أواني الدار من طناجر وصحون، كانت تصنع من النحاس وإذاً، فقد كان لابد من تبييضها، منعاً لأذى تفاعل النحاس الخالص، مع ما يطبخ ويوضع في تلك الأواني.‏
وقد كانت لي وقفات طويلة أمام دكان المبيض التي يغشّي السخام الأسود مختلف جدرانها وأنحائها. وكنت أستطرف في الدكان حفرتين، الأولى عميقة، وهي التي ينزل فيها المبيض، ليعمل، وبجانبه الكور الذي يعمل بمنفاخ هوائي، فيوهج الجمر أمامه، حيث يضع الأواني ويطليها بالقصدير.. أما الحفرة الثانية فكانت غير عميقة، وهي مخصصة لعمل يسبق التبييض، فبعض الآنية التي تراكم عليها الزمن كانت تحتاج إلى فرك، فيضعها المبيض تحت قدميه مضيفاً إليها بعض الرماد والرمل الناعم، ويأخذ يفركها بقدميه في حركة تشبه الرقص، وقد رفع سرواله الأسود، وضم فضل ثوبه الأعلى إلى خصره، في حين يتشبث بكلتا يديه بعصا غليظة غُرس طرفاها في الجدار على نحو متين. كان الرجل يراني وأنا أتأمل حركاته الراقصة الموقعة كأنه يرقص "سامبا" أو "جيرك" بلغة هذا الزمان، فيبتسم.. بحنان وعذوبة.. ثم يتابع عمله.‏
وبين الأماكن التي كنت أمضي وقتاً في الوقوف عندها أتفرج وأتأمل، دكان الحداد "جرجي بيلونة". وقد حدث مرة أن التقيت برجل يقاربني عمراً، فقلت له: أعرف وجهك. لكنه لم يعرفني. وعندما أجهدت الذاكرة قليلاً، ورجعت إلى تلك الفترة من الأربعينات، قلت له بثقة: ألم تكن تعمل عند جرجي بيلونه. فقال: بلى.. كنت.. ولكن كيف تذكرني ولا أذكرك قلت: كنت أقف ملياً بجانب دكانكم أتأملكم وأنتم تعملون، تصنعون السكاكين والخناجر المجدلانية. وكان أكثر ما يثيرني في عملكم، تطعيمكم مقبض الخنجر وترصيعه بالحجارة الملونة.. كريمة كانت أو غير كريمة.‏
وكان هذا شأني مع "الكوا".. كواء الطرابيش، وهي أيضاً من المهن الهامة التي انقرضت في دمشق، فقد مر زمان على الناس، كان عليهم أن "يتطربشوا" جميعاً كما يقول إبراهيم عبد القادر المازني. وكان ينظر إلى من خلا رأسه من طربوش نظرة غير مريحة. والأطرف كما سمعت، أن معتمر الطربوش القصير، كان ينظر إليه على أنه من الشباب.. غير الراكزين.- وفي مطالع هذا القرن، كان من لم يبلغ الأربعين من عمره يدعى: ولداً- أما الرجل الراكز "المعدّل" فهو الذي يعتمر الطربوش الطويل..‏
أما الكواء صاحب الدكان، فاسمه "واصف الطرابيشي" ويبدو أن الأسرة كلها كانت عريقة في المهنة، حتى أخذت اسمها منها، يؤكد ذلك أن كواء آخر للطرابيش في الحي، كان من الأسرة ذاتها.. ويحمل اسم الطرابيشي نفسه.‏
ولست أدري من أخبر واصفاً هذا بأنه يشبه الملك فاروق، فإذا هو يتشبه به بكل شيء، شاربيه، طريقته في ركز الطربوش على رأسه، وأخيراً، فإنه من قبل أن يتزوج دعا نفسه "أبا فاروق"، وأكل أصحابه "حلوتها" في حفلة سخية في عين الخضرة. ذاك أن من يلقب بلقب ما.. كان عليه أن يقيم وليمة لأصحابه في هذه المناسبة، تتكرس بعدها تسميته باللقب المختار: أبو أحمد. أبو عبده. أبو ياسين.. أبو فاروق.‏
وأذكر أن أحدهم لقب نفسه قبل الزواج بلقب معين: "أبو فهد" فعندما تزوج ورزق بغلام، أصر والده –أي جد الولد- على تسميته باسمه أي "أبو أحمد" ولكن أصحابه ظلوا ينادونه "أبا فهد" فأقام وليمة لتكريس اللقب الجديد. فكان الداخلون إلى الوليمة.. يحيّونه قائلين: مرحباً أبا أحمد، فحين أكلوا وتفكهوا وتحلوا، وصار عليهم أن يغادروا الوليمة، عاد كل منهم يودعه عند الباب قائلاً: ديارك عامرة يا أبا فهد..‏
وكان في الحي اثنان مهنتهما تأجير وإصلاح الدراجات الهوائية: "البسكليت" والواحد منهما اسمه "بسكليتاتي"، فكنا نستأجر من أحدهما دراجة نذهب بها إلى الغوطة الشرقية.. فإذا استأجرناها طوال الليل: "ليليّة" ذهبنا أبعد من ذلك.. وكان أقصى مكان نذهب إليه هو "السيدة زينب". وكان حلم الواحد منا أن يحصل على دراجة خاصة به.‏
* * *
يرتفع حي مئذنة الشحم في جانبه الشرقي رويداً رويداً، حتى يعلو عند تلتي النجارين والسماكة ارتفاعاً يلفت النظر، عن مستوى الشارع الذي يتوسط الحي، ثم ينحدر جنوباً نحو زقاق يدعى "زقاق الناصري". وفيه مقام "الولي الناصري".. ما يزال قائماً حتى الآن، قبالة المنزل الذي ولد فيه الشاعر الكبير نزار قباني.‏
وهناك مقهى الناصري، وفرن الناصري وحمام الناصري. فأما المقهى فما يزال على حاله حتى الان تقريباً، وإن يكن رواده قد أمسوا قلة قليلة.. وأما الفرن، فما برح حتى الآن، وإن يكن صاحبه قد توفي قبل سنوات، وكان اسمه "إسماعيل منكيرة" إلا أن الكثيرين كانوا يدعونه "هتلر". وكان هذا هو الآخر معجباً بهتلر، في أوج عزته وقوته.. وكانت له مواقف في هذا المجال إبان الحرب العالمية الثانية، فقد كان مؤمناً بعظمة هتلر وحبه للعرب وانتصاره لهم. وكان يقول: انتظروا.. تروا. وكان له شاربان مثل شاربي هتلر تماماً: فراشة تحت أنفه. وأما الحمام الذي كانت أمي تأخذني معها إليه، بين أفراد الأسرة، فقد غدا مستودعاً. في آخر مرة ذهبت مع أمي إلى هذا الحمام، وكنت في الحادية عشرة، ولكن شكلي وطولي كانا يوحيان بأكثر من ذلك، فما إن أبصرتني النساء المستحمات، حتى اشتعلت ثورة بينهن، وأخذن يقرعن أجران الحمام بالطاسات ويولولن، قائلات: المرة الجاية.. جيبي أبوه معك.. وكان أن تداركت الأمر القيمة على الحمام، فأفردت لنا مقصورة وضعت على بابها ستارة، ورجت أمي بحب أن لا تعود إلى مثلها..‏ 
.. وفي الطريق إلى الناصري، تذكرت واحدة أخيرة من المهن التي انقرضت أيضاً: الرشاش. كان ذاك أبا محمود الأطرش. وكان أطرش حقاً. عرفته تماماً، وكان ابنه "خيرو" من زملائي في المدرسة. أزرق العينين، في قامة مربوعة، منحن قليلاً، وعلى ظهره ربطت قربة جلدية ملأها ماء، وراح يرش دروب الحي، في حين يتبعه كنّاس.. يتولى التنظيف بعده.. ولم يكن أنظف من حينا.. يومذاك، رغم أن بعض دروبه كان ترابياً.‏
كانت الطنابر هي وسيلة النقل الأولى في حينا. وكان لها نوعان: واحد مربع الشكل تقريباً بعجلتين، في مساحة تناهز مترين مربعين، تحيط به من جانبيه دفتان خشبيتان ترتفع الواحدة منهما أقل من نصف متر، على أن تُحصر البضائع المنقولة بين هاتين الدفتين. وكثيراً ما كان ينقل الآجرُّ والتراب والرمل على هذه الطنابر التي يجرها بغل متين.‏
أما النوع الثاني فقد كان متطاولاً يكاد يبلغ طوله ثلاثة أمتار، لكنه ضيق نسبياً. وبست عجلات أصغر، من عجلات النوع الأول، ويجره في الأغلب ثلاثة خيول، مربوطة على التوالي، وكان مخصصاً للنقل السريع، ذاك أنه كان يمر في الحي، في مثل لمح البرق.‏
.. وبين وقت وآخر كانت تمر عربات الركاب يجرها حصانان.. أما السيارات الشاحنة فقد كانت تجوز الشارع المستقيم أحياناً لكنها كانت قليلة.. وأما سيارات الركوب، فكان مرورها نادراً.‏ 
وأذكر أن شيخ حارتنا توفيق القباني، وكان لديه مصنع للسكاكر والملبس في زقاق معاوية بالحي، وهو من الذين دعموا رجال الثورة السورية مادياً ومعنوياً، وهو والد الشاعر نزار قباني، أقام وليمة عام 1947 للممثل الكوميدي المشهور بشارة واكيم، لبناني الأصل الذي كان وجوده ضرورياً بلهجته اللبنانية الأصلية في الأفلام المصرية. وحين ظهرت السيارة التي تقله في مصلّبة الحي، أصر الشبان على أن يحملوها.. ويرفعوها بأيديهم. ولست أدري إن كان ذلك احتفاء بالممثل فحسب.. أم فرحاً بدخول مثل هذه السيارة الجميلة حيناً.‏ 
.. على أن هؤلاء الشبان أنفسهم كانوا يتشاجرون في كل مساء تقريباً. لماذا؟ لست أدري. ولكنني كنت أرى بين مساء وآخر، واحداً منهم وقد طعنه آخر بخنجر أو موس كباس، والرجال مجتمعون.. ورجال الشرطة يخفّون من مخفر الحي القريب لحسم الموقف. الغريب في الأمر أن بعض هؤلاء كانوا من المشاركين في مقاومة الاستعمار الفرنسي، وخاصة الإضراب المشهور عام 1936. وأدى بعضهم أدواراً مشرفة في شهر أيار 1945، يوم اندلعت المظاهرات في مختلف أنحاء سورية، منادية بالجلاء وإنشاء الجيش السوري.‏
أطرف ما في الأمر أن واحداً من هؤلاء وكان يلقب بأبي دعاس، واسمه تيسير العماوي وقد كان بطل قصة قصيرة لي عنوانها: حكاية مطواة –تشاجر مع آخر، ففر هذا أمامه.. فلحقه حتى باب توما.. وهناك ضاع المطارَد في غبشة المساء بين الناس، فلم يكن من العماوي الذي كانت مطواته بيده، إلا أن رفعها في الهواء وصاح: العماوي يسحب موسه ويرجع بلا دم.. وطعن نفسه.‏
ولكن أمسيات الحي لم تكن دامية جميعاً، فقد كانت تقوم زينات باذخة عند المساء على جانبي الشارع المستقيم أمام مسجد الحي وقبالته.. فتعلق السجاجيد، وعند أطرافها أغصان الزيزفون، يؤتى بها من الغوطة، وفوقها تعلق أيضاً السيوف والتروس وصورة رئيس الجمهورية السيد شكري القوتلي.‏
وكان عيد المولد النبوي الشريف، وعودة بعض الوجهاء في الحي من الحج مناسبة لإقامة هذه الزينات، وإذ يخلو الطريق تقريباً من مرور العربات والعجلات، كان يبدأ الاحتفال.. فينبري بعض الأقوياء، بلباسهم التقليدي الذي كان شائعاً في الحي: الشروال، والصدرية، والميتان، والشملة، ويتبارون بلعبة الخيزرانات الطويلة "الحكم"، في يمين الواحد منهم خيزرانة وفي يسراه ترس مستدير من القماش الذي يغلف لبادة غليظة مهمتها تلقي الضربات.‏
يبدأ اللعب باستعراض العضلات. فيقوم كل واحد بعرض فردي خاص، يلوح خلاله في الهواء بخيزرانته، ثم يتلقاها بترسه.. وربما قفز خلال ذلك، ثم انثنى نحو الأرض، ليعود إلى القفز من جديد.. على نحو آخر..‏
الاثنان يلعبان: واحد عن يمين الطريق وآخر عن يساره والأنظار موزعة بينهما. حتى إذا انتهى هذا الاستعراض، بدأ اللعب الحقيقي، فحاول كل منهما تسديد ضربة صائبة بخيزرانته إلى جسد الآخر، فيتلقاها هذا ببراعته ومرونته.. بترسه..‏
ولم يكن بد بطبيعة الحال، من أن تسقط بعض الضربات على الجسد، لكنها لم تكن ضربات قاسية مؤذية.‏
وفي نهاية كل شوط، وفي طقس احتفالي تمثيلي، كان ينهض أحد الوجهاء الكبار فيفصل بين الرجلين، ويجعل كلاً منهما يقبل شاربي الآخر..‏ 
حينذاك يكون الوقت قد حان، لممارسة لعبة أكثر جدية، هي لعبة السيف والترس. وكان يتولاها رجال الحي الكهول..‏
كان اللعب يبدأ باستعراض تقليدي للقوة، فينتحي كل واحد جانباً من الطريق، ملوحاً بسيفه في الهواء، في حركات، تنم عن مهارة وخفة، ثم يتلقاه بترسه.. ومن ثم يضرب بطرفه حجارة الطريق السوداء، فيتناثر الشرر..‏
ومثلما كان الشبان يفعلون، فكذلك كان هؤلاء الكهول، ينثنون نحو الأرض ثم يهبون قافزين.. معلنين استعدادهم لبدء اللعب..‏
كان الوحيد المسموح له بأن يلقي بتعليقاته المازحة هو مؤذن الحي "أبو كاسم حصرم" فقد كان أكبرهم عمراً، وأخفهم ظلاً، ولم تكن تعليقاته جارحة.‏
كان مثل هذه الاحتفالات يستمر حتى ساعة متأخرة من الليل، وخلال ذلك يكون سمر وأحاديث وحكايات يشترك فيها الجميع.‏
وكانت لأهل الحي مطارحهم الخاصة للنزهة، قلما تجاوزوها إلى الربوة و دمر أو عين الخضرة أو عين الفيجة في الأحوال العادية.‏
كانت تلك المتنزهات ثلاثة مواضع متقاربة: بساتين القراونة جنوب حي الأمين والشاغور ويقصدها الشبان في الأمسيات والليالي المقمرة، فيحملون إلى هناك عدة القصف والسمر: بابور الكاز. إبريق الشاي وكؤوسه. وربما حمل أحدهم من منزله حاكياً "فونوغرافاً" صغيراً نقالاً مع أسطواناته.. وربما آثر بعضهم أن يشرب العرق بدل الشاي أو القهوة.‏
.. الآن درست هذه البساتين، وكان بينها بستان الذهبي الذي استشهد فيه حسن الخراط عام 1925، وقام مكانها ما يسمى: المنطقة الصناعية.. حيث يندر أن يرى الإنسان غصناً أخضر.‏
وحديقة الصوفانية، غير بعيد عن سور دمشق، حيث ينقسم أحد فروع بردى قسمين يحيطان بالحديقة من جانبيها.‏
وكان لأمي رحمها الله، وإحدى خالاتي، ولع خاص في تناول قهوة الصباح في هذه الحديقة، وكانت تصحبني معها لأحمل السلة التي تحتوي على أدوات القهوة.. وبعض الطعام للإفطار.‏ 

.. وما تزال الحديقة على حالها تقريباً، غير أن حالة النهر المتردية جعلت زيارتها غير مستحبة..‏
.. وكان هناك أخيراً، ضفاف فرع آخر من بردى، عند جامع الشيخ رسلان.. وقد كان المتنزهون ينتشرون هناك.. حاملين معهم، كما هي عادة الدمشقيين، كل ما يمكن أن يحتاجوا إليه في مثل هذه النزهة.. أما نحن الأولاد، فقد كانت لنا تسليتنا المستحبة، مع أسراب البطّ التي كانت تسبح في النهر ذاهبة آيبة.. تتلقى الطعام الذي نقذفه نحوها.. وربما جاء بعضنا بشبكة صغيرة، حاول بها أن يصطاد بعض السمك..‏ 



ما يزال بردى يمر من هناك.. ولكن لم يبق مكان للنزهة عند الضفاف.. وتلاشت الأشجار التي كانت تبسط ظلالها الوارفة على المتنزهين.. واختفت أسراب البط الأبيض تماماً.. ومع الروائح غير المستحبة المنبعثة من النهر اختفى السمك أيضاً.. من يستطيع أن يعثر على سمكة واحدة.. في نهر بردى؟‏