انطباعات مبشرة انكليزية عن أسواق دمشق
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر
الأسواق في دمشق
كلفنا العديد من الأصدقاء , بالقيام ببعض المشتريات لهم من السوق وما أخشاه أن نقضي سحابة يومنا في القيام بهذه المشتريات , فعلينا الذهاب باكرا مباشرة بعد تناول الإفطار , وعلينا أن نسرج الحمير مع تابعنا الأمين فارس الذي يقوم بالمفاصلة بالنيابة عنا , وقبل الانطلاق علينا أن نتأكد بأنه بأن لا عيد للنصارى في هذا اليوم , ولا هو يوم جمعة ,اليوم المقدس عند المسلمين , حيث تتوجه جموع الناس لأداء شعائر الصلاة في المسجد الكبير , وبعدها وبعد ينشغلون بشراء احتياجاتهم الأسبوعية .
ففي يوم الجمعة يكتظ السوق بالناس والذهاب إليه مرهقا ويكون الوضع أشبه بشق طريق من خلال قطيع ,وليس هنالك طرقات جانبية , صحيح أن العربات ذات العجلات قليلة بل ونادرة في دمشق إلا أن الجمال المحملة والبغال كثيرة وبعض الناس يركبون أفراسا جميلة وهادئة , وحميرا صبورة , والجميع يجب أن يسيروا في طرقات ضيقة ,
وكالعادة سنجد الأسواق ملآ بالناس , وخادمنا عليه السير أمامنا , رافعا صوته بحيوية تحذيرا للناس ليشق لنا الطريق .....أوعى ضهرك للرجل .. أوعي ضهرك للمرأة ... أوعى وشك.
النساء يعتريهن الغضب إذا اقترب أنف الحمار منهن , وسيغدو الرجال المسلمين عدوانيين إذا اصطدم بهم , والأطفال الصغار يلعبون حوله , والكلاب مضجعة وشبه نائمة على الرغم من الضجيج , وعلينا أن نكون مفتحي الأعين لتجنب الاصطدام.
في البداية عبرنا من الشارع المستقيم الذي يبدأ من البوابةبالدكاكين التيشرقي , إلى القسم الأعظم من المدينة . الخط الرئيسي لهذا الشارع وهذا الشارع فقط مازال مستقيما وتنتصب على طوله أبنية من مختلف الأحجام والأشكال بعضها بارز أكثر من الآخر وهذا لا يعطي منظرا جميلا للشارع, بعض الأعمدة الأثرية القديمة وجدت فيه .
قسم من البوابة الشرقية قديم جدا ولكن معظم البيوت والمحلات بنيت بطراز حديث .
القسم الأول من الشارع يتقاسمه اليهود والنصارى وهو ممتلئ بالدكاكين التي تبيع أصناف الطعام العادية , اللحم , الخبز , الفواكه و الزيتون ,الزبيب ..الخ وهي دكاكين صغيرة فقيرة ولكن في المواسم هنالك غزارة في إنتاج الفواكه والخضراوات ومناظرها خلابة بالنسبة للانكليز ,
الدراق والعنب يباع دائما بثلاثة أو أربعة , بالرطل وهو ما يعادل خمس باوندات ونصف انكليزية, أما البندورة والكوسا والخيار فلها أغان كثيرة .
قسم من الشارع احترق منذ بضعة سنين وأعيد بناؤه في ولاية مدحت باشا الذي أصر على توسعة وتحسينات للشارع والتي تعد اليوم أجمل أقسام الشارع ,
المحلات مازالت تبنى على الطراز الشرقي فكل دكان في داخله عدد من الفجوات الحائطية عليها رفوف تتوزع فوقها البضائع والمدخل يرتفع قدمين عن الأرض البائع يجلس القرفصاء في منتف الدكان ولا يكلف نفسه عناء الوقوف مشيرا بيديه لزبائنه الذين يتفحصون البضائع وهم ركوبا على خيولهم أو حميرهم و نادرا ما نرى في الدكان أكثر من رجل واحد, وزبائنه يتذمرون متعبين من الوقوف ولكن هو لا يتذمر .
وعليّ أن أقول أن الأسواق في مجملها مسقوفة , بعضها مسقوف بالحصير , والأخر مسقوف بسقف خشبي جميل ¸وهذه الأسواق ليس لها في كل أوربا مثيل وزيارتها دائما ممتعة , كما افعل دائما .
الكوفية الحريرية هي أول مشترياتنا , وهي التي يرتديها الرجال على رؤوسهم في السفر ,
بعضها يباع في الحوانيت ولكن الخيار الأفضل أن نزور واحدا من محلات بيع الحرير , وما علينا إلا أن نترك حميرنا برعاية خادمنا , وان نتبع فارس إلى البوابة ونتسلق الدرج الحجري إلى دكان علوي في خان الحرير العظيم , أو ما يسمى بسوق الجملة ,كل واحد من التجار يوظف عددا من نساجي الحرير وله غرفة خاصة يعرض فيها الإنتاج للزبائن , مثلنا .
وهؤلاء الناس رأسماليون يعتمدون على تصدير كميات معتبرة إلى باقي المدن السورية واستانبول والإسكندرية و....
زرنا اثنتين أو ثلاثة من هذه الغرف وشاهدنا عددا من الكوفيات , شراشف الطاولات المطرزة , والخفافات النسائية , العباءات الحريرية التي ترتديها النساء المسلمات , والأحزمة الجلدية الرجالية . انتقينا بعضها وتركناها لفارس ليسدد ثمنها
التجار الشرقيون لا يصرحون عن أسعار محددة لكل قطعة وهذا ما يبعث على الشقاء فعلينا أن نضيع نصف ساعة في المفاصلة حول السعر , فالبائع الذي بدأ بحوار شديد اللطف والتهذيب ,
فهو يحترمنا كأصدقاء وهو لن يسألنا شيئا "وكل شيء لديه على حسابنا " , ولكن هذه المقدمة بشكل عام هي تحذير لنا لأنه في النهاية سيضع زيادة على قيمة بضاعته مضاعفة مرتين أو ثلاثة فمثلا إذا كان المبلغ 100 غرش ،
فارس سيقول فورا خمسين وبعد المناقشة التي لا تنتهي قد نأخذه ب 35
هذه المفاصلة المزعجة والكريهة لا تتناغم والتفكير الأوربي , فغالبا نذهب في المرة الأولى لتحديد الأشياء التي نريد , ونرسل فارس مرة أخرى في أوقات فراغه لينهي المفاصلة ,
فوجودنا معه لا يقدم له شيئا و لا يساعده , ولان البائعين يفكرون بحصاد اكبر مبلغ من جيوب الانكليز أو من جيوب الجمهور .
تركنا خان الحرير لنعبر لسوق مختص في بيع " الديما " أو القطن المخطط –وهو قماش متين يحاك بدمشق نفسها وفي أقسام أخرى متعددة من الدولة .ويستخدم لصنع القنباز الطويل وهو رداء طويل يحزم من الوسط ويرتديه الرجال في دمشق , وعادة تستخدم النساء قماش الديما لصنع ألبستهن ولكن ولسوء الحظ أكثرهن يزدرين هذا القماش المتين المصنع في بلادهم ويفضلن شراء الأرخص والمهلهل
القماش الانكليزي المطبع يباع في المحل المجاور وحقا دهشنا , وخجلنا أن نرى البضائع المصنعة في مانشستر تباع في دمشق ولا نراها في بلادنا
دكان صغير ينوء تحت دعائمه , يعرض الأحمر المتألق , وأحيانا الأصفر الفاقع , كموضة لهذا العام , أحيانا يأخذ السوق سمة واحده, حتى في دمشق لدينا موضة .
الأخضر يعتبر المسلمون لونا للعبادة ( حيث يرتديه مشايخ الطرق ) ولا يسمحون للطوائف الأخرى بارتدائه , والى جانب هذه الألوان الفاقعة للألبسة هنالك الكثير من أقمشة الكريتون للكنبات ,
ولكن التجار الانكليز الأشقياء يعرفون ولع التجار الشرقيين ونقطة ضعفهم المفاصلة فيرسلون لهم مواد رديئة فهم لا يستطيعون بيعها في بلادهم, لتباع هنا بأسعار رخيصة لرداءتها فالناس هناك تبحث عن اللون الهادئ والقماش المتين .
الأسواق في دمشق متنوعة ومنتشرة , اعجز عن وصفها بمجملها , بعضها مختلط والقسم الأكبر منها مختص لبيع أشياء محددة , فهنالك سوق للبهارات والفواكه المجففة, وهناك سوق للرز والملح , وسوق للمصنوعات الفضية ,وسوق للنساء يبيع الملابس , القديمة والجديدة , وسوق للمصنوعات النحاسية ,وكثير غيرها وعندما نزورها فلزاما علينا أن نشتري منها هدايا وتذكارات لأصدقائنا في انكلترا .
قرب احد أبواب الجامع الأموي الكبير مكان الحذاءين , حيث يمكننا أن نجد مجموعة طريفة من الأحذية المحلية اليدوية الصنع , حذاء احمر للأطفال , وحذاء جلدي احمر بساق طويل, كأحذية ويلنغتون , للأعراب والفلاحين , ونعل بأصبع لفقراء الفلاحين , وخف جميل من الأصفر الشاحب ترتديه النساء المسلمات , ونشتري عادة قطعة أو اثنتين .
وعلية القوم في دمشق الآن سمعوا عن ما يسمى المطاط وهي أحذية بشكل بوط اسود تأتي مباشرة من بريطانيا وفرنسا أو أنها أضحت تصنع محليا وتباع لمناطق أخرى
هناك شيء مميز في حياة مدن الشرق . يجب ألا نهمل ذكره , أن كل الصناعيين المحليين, يعملون أمام الناس , على سبيل المثال : في جزء من المدينة ترى العديد من أنوال الحياكة تعمل في عدد من المحلات , أي عابر للطريق بإمكانه مشاهدة العملية كاملة , وان يرى الرجال يجلسون على الأرض ويدخلون أرجلهم في حفرة عميقة منهمكين يقذفون المكوك من جانب لآخر وبإمكانك أن تقف في الشارع وترى النماذج التي ينتجونها .
وعلى مقربة منه باب بناء مفتوح تعبره فيخبروك انه معمل للصابون , وغير بعيد منشأة لصناعة النشاء .
من سوق الحذاءين ذهبنا إلى سوق شهير في دمشق يعنى بصناعة خشبية جميلة وشاهدنا الكثير من الرجال منهمكين يصنعون أشكالا مختلفة من خشب الجوز , الذي سيرصع فيما بعد بالصدف ولا اخفي خشيتي من أنني سأنفق الكثير من المال هنا , تابعوا عملهم ولم يعيروا اهتماما لمرورنا , الضجة وصداها على السوق تصم الأذان .
كالمرايا المزخرفة كانت القباقيب , بألوان شاذة , وسير مخملي ( للقبقاب) وبعضها للاستخدام العادي , للنساء وللرجال أيضاً فالكثير منهم يرتديه في باحة البيت , وقبقاب آخر يرفع حوالي قدم ونصف وهو مخصص للعرائس .
طاولات صغيرة , أطباق للرجال المدخنين , طاولات كبيرة , صناديق خشبية للعرائس , أسرّة للأطفال , وأشياء كثيرة تثير الفضول وكلها جميلة إلى ابعد حد .
وبعدها وعلى جناح السرعة علينا زيارة سوق النحاسين لشراء صينية نحاسية جميلة منقوشة بنقوش جميلة , وطشت وإبريق , لاستخدامه في غسل يدي الضيوف بعد الأكل , الطشت مصنوع من طبقتين , كما لاحظنا , فالقطعة العليا مثقوبة وسهلة الحركة وفي الأعلى مكان لوضع الصابون , والإبريق له دائما شكل أنيق يشبه أباريق خمر بوردو , وعندما يسكب الماء على اليدين يختفي خلال الثقب .
ومن هذا السوق علينا الذهاب لرؤية صانعي السروج أثناء عملهم , وهذا من الأعمال الشرقية المتكاملة , طبعا لن نشاهد فرسانا إلا إذا صادف مرور عابر لعجوز انكليزي ترك زملاءه المسافرين ليتجول .النساء كلهن قادرات على ركوب الخيل عند الضرورة , لان لا وسيلة أخرى للانتقال من مكان إلى مكان , ويركبن كالرجال , منفرجات الساقين , وعلى السرج العادي, ذو النقطة المرتفعة من الأمام , وله ركاب حديدي مفتوح , الكثير من السروج مغطاة بتطريزات محلية أنيقة , بعضها برسم أسد , وكلها بألوان براقة , وتعرض أيضاً لجامات محلية , والكثير من عدد الزينة للخيول وهنا أيضاً تباع الحزامات الجلدية , وكذلك الحزامات الصوفية وحقائب جلدية لدوارق البارود .
عدنا إلى البيت , وأخذ منّا التعب كل مأخذ , لاحظنا في مكان أو اثنين , خيولا مربوطة أناساً يعرضون تحفا للبيع , وهم حجاجا عائدون بها من مكة , أوان خزفية صينية , ملاعق للرز , مراوح من القش , مسابح , زجاجات ماء ورد ..الخ
السيوف الدمشقية أشياء لا نراها هنا , إنها أشياء من الماضي ولكن بين الفينة والأخرى نكتشف بعضا منها في صغيرة لتجارة الأنتيكا , وخزف دمشق المشهور لم يعد يصنع , وكذلك يمكن شراؤه من محلات التحف , وعلينا أن نعترف أن هذه المدينة القديمة التي شهدت التبدلات ل4000 سنة على الأقل , لديها القدرة على الحياة والنماء .
على الرغم من كل الظروف والتقلبات التي مرت بدمشق من ظلم وسوء إدارة الحكام ومع الجهل بما يجري في العالم الخارجي , ورغم محدودية التعليم , لا تزال نشطة ومثابرة ودءوبة على إنتاج وتصدير مختلف المصنوعات إلى بلاد بعيدة
انتهت بابل ونينوى وصور ولكن دمشق لا تزال شامخة وكبيرة ومأهولة .
في شيء واحد دمشق ضعيفة و وهو البراعة في الصقل والدقة ومراعاة الذوق في التصميم.
ونحترم في هذا المجال أننا لا نستطيع مقارنتهم بالهندوس أو الصينيين , ولكن الكثيرين من اليافعين تواقون للتحسن ومبتهجون للتعلم من الصناع الانكليز في الفرصة الممنوحة
عندما نمر عبر أسواق, كنا نلاحظ أمراً غريبا , وهو أن تفرد شبكة حول الحانوت , وعندما سألنا فارس عن معنى هذا , لم يجب قال أن صاحب المتجر قد ذهب لساعة أو ساعتين والشبكة إعلام أن المحل مغلق , كانت دهشتي عظيمة مع كل هذا الازدحام أن يترك رجل كل بضاعته بحراسة شبكة ؟؟؟؟ ولكنني افترضت انه قد طلب من جيرانه أن يراقبوا المحل في غيابه , ولكن عند غروب الشمس وعندما يغلقون متاجرهم ويعودون إلى بيوتهم وما نسمعه في دمشق عن أن أبو احمد وأبو حسين في المدينة هو ما نسمعه في لندن , أن مستر سميث أو مستر براون في المدينة .
عند المغيب يترك السوق لمسؤولية الحارس الذي يذرع المكان جيئة وذهابا كما يفعل رجل الشرطة ,وقد يلجؤون لأساليب مختلفة في حماية المكان كأن يستلقون بالعرض ويصرخون عند قدوم احد ليتنبه الحارس الآخر , ويلعن للناس ليأتوا وتكون بمثابة البرقية لرجال الشرطة أن لصا يحاول اقتحام محل من المحلات وهذا ما يسود بمعظم مدن الشرق وهم ينذرون بعضهم لتجنب المفاجآت .
السوق الوحيد الذي نسيت أن اذكره في الأسواق هو سوق العبيد ¸لأنه سري , وهو معروف جدا
في قسمين أو ثلاثة في المدينة , هنالك خانات حيث تباع النساء والرجال
المالكون لا يعيرون اهتماما ومرة حصلت على إذن بالدخول , كانت هنالك امرأة معروضة للبيع وأكد البائع أن احد الحجاج احضرها من مكة وفي معظم البيوت في دمشق سواء المسلمين أو المسيحيين هنالك عبيد سود
ففي بيت الباشا أحصينا 12 معظمهم يعاملون معاملة حسنة فهم خليلات للباشا
لقد دفع 30 – 40 جنيه في الفتاة , ونحن حريصون على تمتعهن بالصحة والقوة "كما قال البائع , وبعضهن تحسبهن جزءا من عائلة سيدهن .
منذ سنتين أو ثلاثة مضت كنا نتردد لزيارة عبدة من جيراننا في مرضها الأخير , وكنا سعداء جدا للعناية التي تتلقاها من سيدتها أو من الأطفال الذين ربتهم .
وأنا آسفة للقول , أن بيع العبيد لا يقتصر على النوبيون السود , بل ومن البيض , النساء الجركسيات الجميلات يؤتى بهن إلى المدينة للبيع وتزين بهن أقسام الحريم قي قصور الباشاوات الأغنياء , ويصل سعر الواحدة منهن 300 – 400 جنيه انكليزي
عند عودتنا للبيت في الواحدة أو الثانية بعد الظهر , لاحظنا مجموعة من الرجال تقف بكسل إلى جوانب الطرقات , وعندما سألنا فارس عن سبب تسكعهم , أجاب " لأنهم بؤساء ولم يسند إليهم أي عمل , فهم يقفون من بزوغ الفجر" وأوضح أن كل من أراد عاملا لحفر الأرض, أو أعمال مشابهة , كطينة السطوح يأتي إلى هنا والعمال من اختصاصات أخرى لها مناطق تجمع أخرى في المدينة .
قبل دخولنا للمنزل بعد يوم مجهد في البازار , لا بأس من التوقف لدقائق , عند باب شرقي لاستنشاق الهواء النقي , فالمساحة الكبيرة المفتوحة بين المدينة ومدافن مختلف النصارى من الروم الشرقيين والكاثوليك والبروتستانت .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق