وقد كانت في ( 1 نيسان 1833 م ) حيث قال في مذكراته :
في الساعة السادسة صباحاً امتطينا الخيل وشرعنا في رحلتنا (من بعلبك إلى دمشق) دون توقف فيما بين جبال جرداء شاهقة المنحدر ولا يفصلها عن بعضها سوى شعاب ضيقة حيث تجري سيول من ذوبان الثلج، لا شجر ولا نميص. أشكال تلك الجبال المفتتة غريبة تمثل آثاراً بشرية، منها أثر عال ضخم شا قولي المرتقى من جميع الجهات مثل هرم. قد يبلغ محيطه فرسخاً ولا يستطيع أحد أن يكتشف كيف تمكن الناس من تسلقه. فما من أثر ظاهر لدرب أو درجات مع أن أيادي بشرية حفرت مغائر من جميع القياسات في جميع منحدراته...
تركنا هذا الجبل إلى شمالنا وما لبث أن صار خلفنا وهبطنا بسرعة من خلال منخفضات عسير سلوكها إلى واد أعرض وأكثر انفتاحاً يجري فيه نهر. وبدأت تظهر لأعيننا على جانبيه من خلال شقوق الصخور التي تحف بالنهر أشجار الصفصاف والحور وأشجار مختلفة كثيرة أخرى أغصانها متشابكة بصورة غريبة، أوراقها سوداء. سرنا وتلك الضفاف ساعات مفتونين ونحن ننحدر دون أن نلاحظ ذلك. النهر يرافقنا وهو يخر ويزبد تحت أرجل خيلنا. الجبال العالية التي تشكل الشعب حيث يسيل النهر تبتعد وتتكور فتتحول إلى تلال عريضة مشجرة تلقي عليها الشمس الغاربة أشعتها، إنها أول منفذ إلى مابين النهرين: صرنا نرى أودية فسيحة تنفتح شيئاً فشيئاً على سهل الصحراء الكبير مابين دمشق وبغداد. الوادي حيث كنا أخذ يتسع والماء يجري فيه ببطء. وبدأنا نلمح على يمين النهر وشماله بقايا زرع ونسمع أصوات قطعان بعيدة. بساتين من أشجار المشمش الكبيرة وأشجار الجوز تحف بالطريق. وما عتمنا أن فوجئنا برؤية سياجات، كما في أوروبا، تفصل بين البساتين والحدائق المزروعة بقولاً وأشجاراً مثمرة مزهرة. حواجز أو أبواب خشبية تنفتح هنا وهناك على تلك الحدائق الجميلة. الطريق عريضة سوية معتنى بها جيداً كالطرق التي حول إحدى مدن فرنسا.
الزبداني
ليس فينا أحد كان يعلم بوجود هذه الواحة الخلابة في وسط جبال لبنان الشرقية الوعرة. كنا نقترب طبعاً من مدينة أو قرية نجهل اسمها. وصادفنا فارساً عربياً قال إننا على مقربة من قرية كبيرة تدعى الزبداني. وبدأنا نرى الدخان المرتفع منها فوق أعالي الأشجار الكبيرة النابتة في الوادي، حتى دخلنا شوارع القرية. إنها عريضة ومستقيمة ذات أرصفة من حجارة. والبيوت التي على جانبيها كبيرة وحولها باحات ملأى بالحيوانات، وبساتين مروية ومزروعة تماماً. النساء والأولاد يهرعون إلى الأبواب ليرونا ونحن نمر، ويستقبلوننا بوجوه باشة باسمة. سألنا إذا كان يوجد فندق نستطيع أن ننزل فيه لنبيت ليلة؟ فأجابونا بالنفي لأن الزبداني ليست على أي طريق ولا تمر بها أي قافلة. وبعد أن سرنا طويلاً في شوارع القرية وصلنا إلى ساحة كبيرة عند حافة النهر فوجدنا هناك بيتاً أكبر من البيوت الأخرى وفي مقدمته مصطبة محاطة بالأشجار فعلمنا أنه منزل الشيخ. فتقدمت مع ترجماني وطلبت منزلاً للمبيت فهرع الخدم إلى إخبار الشيخ فأسرع هو نفسه إلينا: إنه شيخ جليل أبيض اللحية جميل المظهر، وقدم لي بيته كله باهتمام وترحيب واستقبال للضيافة ما رأيت مثله من قبل في أي مكان آخر، وفي الحال استلم الخدم العديدون وأهم رجال القرية خيولنا وقادوها إلى حظيرة واسعة فأنزلوا الأحمال وجاؤوا بأكداس من شعير وتبن. وأخلى الشيخ نساءه من غرفهن بعد أن أدخلنا إلى ديوانه (المضيف) حيث قدمت إلينا القهوة والشراب، ثم ترك لنا جميع غرف المنزل. وسألني إذا كنت أريد أن يهيء لنا خدامه الطعام. فرجوت منه أن يسمح للطاهيّ أن يعفيهم من هذا العناء وأن يأتيني فقط بعجل وبعض الخراف لنجدد مؤونتنا التي نفدت في بعلبك. وبعد بضع دقائق جيء بالعجل والخراف بعد أن ذبحها جزار القرية. وفيما كان رجالنا يهيؤون لنا العشاء عرفنا الشيخ بوجهاء سكان البلد وبأهله وأصدقائه. وطلب مني أن آذن لنسائه بأن يدخلن على السيدة لامارتين زوجتي وقال: "إنهن يرغبن جداً في رؤية امرأة أوروبية ومشاهدة ثيابها وحلاها". وبالفعل مرت نساء الشيخ وهن محجبات بالديوان حيث كنا ودخلن غرفة زوجتي. كن ثلاثة: الواحدة متقدمة في السن كأنها أم الاثنتين الأخريين، والصغيرتان كانتا رائعتي الجمال وبدتا كثيرتي الاحترام والاعتبار والحب نحو كبيرتهن في السن. وقدمت زوجتي لهن بعض الهدايا وهن من جهتهن فعلن مثل ذلك. خلال هذا اللقاء جاء بنا شيخ الزبداني الجليل إلى مصطبة كان بناها قرب منزله عند حافة النهر تحملها ركائز مغروزة في مجرى النهر نفسه. وكانت تلك المصطبة مغطاة بالبسط وعلى جوانبها ديوان، تظللها هي والنهر شجرة ضخمة كالتي كنت رأيتها عند حافة الطريق. وهنا في ظل الشجرة التي يأوي إليها ويغرد على أغصانها ألف طائر يقضي الشيخ أوقات فراغه كما يفعل جميع الأتراك في الإصغاء إلى خرير الماء والتمتع بمرأى مياه النهر الباردة المزبدة الجارية تحت ناظريه. جسر من الألواح يصل البيت بهذه المصطبة المعلقة. إن هذا المكان هو أحد أجمل الأمكنة التي شاهدتها في رحلتي. البصر ينزلق على آخر تلال جبال لبنان الشرقية المكورة التي تشرف على ِأهرام صخر أسود أو قمم من الثلج وينحدر مع النهر وأمواجه المزبدة فيما بين قمم أشجار غابات مختلفة غير متساوية ترسم مجراه حتى تضيع وإياه في سهول مابين النهرين المنحدرين التي تمتد مثل خليج من خضرة في منعرجات الجبال.
وعندما أصبح العشاء جاهزاً رجوت من الشيخ أن يتكرم بمشاركتنا فيه. فقبل راضياً وبدا عليه السرور لرؤية طريقة الأوروبيين في الأكل. ماكان رأى قبل اليوم أي أداة من أدوات موائدنا وما شرب خمراً قط ونحن ما حاولنا حمله على ذلك.
تكلمنا كثيراً على أوروبا على عاداتنا التي يبدو أنه كان كثير الإعجاب بها. وحدثنا عن طريقة إدارته قريته. لقد حكمت أسرته مدة قرون هذه الناحية الممتازة من جبال لبنان الشرقية، وإن الفضل في التحسينات الجارية في الأملاك والزراعة والشرطة والنظافة التي أعجبنا بها ونحن نجتاز أرض الزبداني يعود لأسرة الشيخ الممتازة. الأمر كذلك في الشرق كله. كل شيء شاذ وخارج على القياس. الخير مثل الشر يستمر هنا بلا نهاية. لقد استطعنا بالاعتماد على هذه القرية الفاتنة أن نحكم على ما يمكن أن تكون هذه الأقاليم التي أعيدت إلى خصبها الطبيعي.
أعجب الشيخ كثيراً بسلاحي ولاسيما بمسدسي. ولم يستطع أن يخفي جيداً السرور الذي يسببه له امتلاك هذا السلاح. ولكنني لم أكن قادراً على تقديمه له: فهما مسدساي للمعركة وكنت أريد الاحتفاظ بهما حتى عودتي إلى أوروبا. فقدمت له هدية ساعة ذهبية إلى زوجته. فأخذ الهدية مع كل الممانعة المهذبة التي تصدر عنا في أوروبا لقبول مثلها. يظهر أنه راض تماماً مع أني ما شككت قط في تفضيله المسدسين. وجيء لنا بكمية من المخدات والبسط من أجل النوم، ففردنا في هذا الديوان الذي كان هو ينام فيه، ونمنا على صوت خرير النهر الذي كان يجري تحت أسرتنا.
وفي اليوم التالي عند طلوع النهار اجتزنا النصف الثاني من قرية الزبداني وهو أجمل مما رأيناه في اليوم السابق. وأمر الشيخ بعض رجال عشيرته بأن يرافقونا حتى دمشق. عندها سمحنا لفرسان بعلبك بالعودة لأنهم قد لا يكونون في مأمن في أرض دمشق. فسرنا ساعة في طريق يحدها سياج حي واسع ومعتنى به كثيراً، كما في فرنسا. الطريق تظلله قبة من أشجار المشمش والأجاص. وتمتد على جانبيه يميناً وشمالاً حدائق لانهاية لها ثم حقول مزروعة فيها أناس كثيرون وحيوانات. جميع هذه الحدائق ترويها سواق تنحدر من الجبال التي إلى الشمال، المكسوة قممها بالثلج. والسهل فسيح ولا شيء يحده في نظرنا سوى غابات الأشجار المزهرة، وبعد ثلاث ساعات من السير كما لو كان وسط أجمل المناظر في إنكلترا أو لومبارديا دون أن يذكرنا شيء بالصحراء والبربرية وصلنا إلى أرض قاحلة وعرة لا يُرى فيها كلياً تقريباً نبت ولا زرع. التلال الصخرية التي لا يكاد الطحلب الأصفر يغشيها تمتد أمامنا تحدها الجبال الجرداء الرمادية اللون. نزلنا في خيامنا عند سفح تلك الجبال بعيداً عن كل مكان مأهول. ونمنا ليلتنا هناك على ضفة سيل ضيق وعميق يسمع له دوي كدوي رعد لا ينتهي في شعب من الصخور يجري فيه ماء عكر ورضاب ثلج.
وامتطينا الخيول في الساعة السادسة، إنه اليوم الأخير، فأكملنا في ضواحي دمشق لبس ثيابنا التركية حتى لا نعرف بأننا من الفرنجة وارتدت زوجتي ثوباً كثوب النساء العربيات وإزاراً من نسيج أبيض لفها من رأسها حتى قدميها. وحسن مرافقونا من العرب هندامهم وأشاروا إلينا بأصابعهم إلى الجبال التي بقي علينا أن نجتازها وهم يصرخون: الشام! الشام! هذا اسم دمشق.
دمشق
بالرغم من تهديدات الباب العالي، بل بالرغم من التخوف من تدخل إبراهيم باشا وحاميته المؤلفة من اثني عشر ألف جندي مصريين أو أجانب لم يقبل سكان دمشق أن يدخل المدينة قنصل إنكلترا العام في سورية. لقد حدث في المدينة تمردان هائلان لمجرد وصول الخبر بمجيء القنصل. ولو لم يرجع من حيث أتى لكان مُزّق إرباً. والأمور ما زالت باقية هكذا على ما كانت عليه. فقدوم أوروبي في لباس أوروبي قد يكون إشارة لفتنة جديدة وقد ساورنا قلق من أن يكون خبر مجيئنا قد بلغ دمشق فيعرضنا إلى أخطار جدية. اتخذنا جميع التدابير الممكنة. لبسنا كلنا ألبسة عريقة جداً في تركيتها. أوروبي وحيد اقتبس أخلاق العرب تزيَّا بزيَّهم، وكان يُعتبر تاجراً أرمنياً قد عرّض نفسه منذ عدة سنين لخطر الإقامة في مدينة كهذه ليكون مفيداً لتجارة ساحل سورية وللمسافرين الذين يجرهم مصيرهم إلى هذه الأماكن التي لا ترحب بالغرباء. إنه السيد بودان، عميل قنصل لفرنسا وكل أوروبا معتمد قديم للسيدة ستا نهوب رافقها في رحلاتها الأولى إلى بعلبك وتدمر، استخدمته الحكومة الفرنسية فيما بعد من أجل الحصول لها على أحصنة من الصحراء. والسيد بودان يتكلم العربية كأي عربي وقد أنشأ علاقات صداقة وتجارة مع جميع القبائل التي تتجول في الصحارى التي حول دمشق. وهو يعيش في دمشق منذ عشر سنوات وتزوج امرأة عربية من أصل أوروبي، وبالرغم من علاقاته العديدة تعرضت حياته للخطر عدة مرات بسبب غضبة سكان المدينة المتعصبين، واضطر إلى الهرب مرتين لينجو من موت محقق. وقد بنى له بيتاً في زحلة المدينة المسيحية الصغيرة الواقعة على سفح جبل لبنان، فإلى هناك كان يلجأ في أوقات الاضطراب الشعبي. فالسيد بودان الذي كانت حياته مهددة دائماً في دمشق هو في هذه العاصمة الكبيرة صلة الاتصال الوحيدة لسياسة أوروبا وتجارتها وما كان يقبض من الحكومة الفرنسية كأجر من أجل خدماته العظيمة سوى مبلغ زهيد قدره (1500) فرنك، في حين أن قناصل قد اتخذت حولهم جميع الاحتياطات الأمنية وحُوّطوا بكلّ أبهة الحياة في درجات الشرق الأخرى يتناولون مكافآت وافرة جزيلة. أنا لا أستطيع أن أفهم بأي عدم مبالاة وبأي إجحاف تهمل هكذا الحكومات الأوروبية ولاسيما الحكومة الفرنسية شاباً ذكياً نزيهاً خدوماً شجاعاً ونشيطاً قدّم وقد يقدّم أعظم الخدمات الوطنية. إنها تخسره! لقد تعرّفت إلى السيد بودان في سورية في السنة السابقة واتفقت معه بشأن رحلتي إلى دمشق وأخبرته بسفري وبوصولي القريب. فبعثت إليه هذا الصباح عربياً ليخبره بالساعة التي أكون فيها في ضواحي دمشق ورجوت منه أن يرسل لي دليلاً ليرشد خطواتي ومساعيّ.
سرنا في الساعة التاسعة صباحاً محاذين جبلاً تغطيه بيوت ريفية وبساتين سكان دمشق. جسر جميل ممتد فوق سيل عند سفح الجبل. وشاهدنا أرتالاً عديدة من الجمال محملة أحجاراً من أجل أبنية جديدة. كل شيء يدلّ على اقترابنا من عاصمة كبيرة: بعد ساعة من الزمن رأينا على قمة هضبة جامعاً صغيراً منعزلاً، لقد كان منزلاً لناسك محمدي، وإلى جانب الجامع عين ماء تجري، وقد رُبطت طاسات من النحاس بسلاسل إلى جدار العين كي يتاح للمسافر أن يرتوي، فتوقفنا برهة في هذا المكان في ظل شجرة جميز، وبدا الطريق مكتظاً بالمسافرين والفلاحين والجنود العرب. ثم امتطينا خيولنا وما أن سرنا صُعُداً بضع مئات من الخطوات حتى سلكنا شعباً عميقاً منحصراً بين جبل نضيدي ينهض شاقولياً فوق رؤوسنا إلى الشمال وحافات صخور إلى اليمين يبلغ ارتفاعها ثلاثين إلى أربعين قدماً.
كان الانحدار سريعاً والأحجار المتدحرجة تنزلق تحت حوافر خيلنا. كان عرب الزبداني يسيرون في الطليعة وأنا في مقدمة القافلة على بعد بضع خطوات منهم. وفجأة وقفوا وصرخوا صراخ الفرح وهم يدلوني على ثقب في حافة الطريق. فتقدمت وحدقت بنظري من خلال فجوة في الصحراء إلى أروع وأغرب أفق لم يدهش مثله نظر إنسان من قبل: إنها دمشق وصحراؤها التي لا حد لها تحتي على بعد بضع مئات من الأقدام. النظر كان يقع أولاً على المدينة التي تحيط بها أسوار الرخام الأصفر والأسود وتحصنها أبراج مربعة لا تحصى على مسافات متقاربة، في أعاليها شرفات منحوتة، وتسيطر على المدينة غابة من المآذن المختلفة الأشكال، وتخترقها فروع نهرها السبعة والسواقي المتفرعة عنه التي لا تعد. لقد كانت ممتدة مدى البصر في متاهة بساتين مزهرة تلقي بسواعدها هنا وهناك في السهل الواسع، الظل في كل مكان، وتحف بالمدينة من كل جانب ضمن دائرة من عشرة فراسخ (أي 40 كم) غابة من أشجار المشمش والجميز، أشجارها من جميع الأشكال وخضرتها التي هي من كل الألوان تبدو كأنها تختفي من وقت لآخر تحت قبب أشجارها ثم تظهر مرة أخرى على بعد كبحيرات عريضة من المنازل والضواحي والقرى، متاهة بساتين وحدائق وقصور وأسواق يحار البصر فيها فلا يترك فتنة إلا ليجد فتنة أخرى. لقد توقفنا عن المسير، الجميع، تراصوا عند فجوة الصحراء الضيقة المنقوبة مثل نافذة فكنا مرة نشاهد ونحن صامتون ومرة أخرى كانت هتافاتنا تتعالى. المشهد الساحر الذي كان يمتد كله هكذا فجأة تحت أعيننا في نهاية درب خلال صخور عديدة وأماكن منعزلة قاحلة عند بداية صحراء أخرى لا يحدها سوى بغداد والبصرة وينبغي لاجتيازها أربعون يوماً. وأخيراً استأنفنا السير، الحاجز الصخري الذي كان يحجب عن عيوننا السهل والمدينة أخذ ينخفض شيئاً فشيئاً حتى أتاح لنا أن نتمتع تماماً بالأفق كله، وما كنا إلا على بعد خمسمائة خطوة فقط من جدران الضاحية، وكانت تحيط بتلك الجدران أكشاك فاتنة ومنازل ريفية أشكالها وهندساتها من أعرقها شرقية فتلمع مثل زنار ذهبي حول دمشق.
الأبراج المربعة التي تدعمها وتعلو الخط موشاة بزخارف عربية تخترقها أقواس قوطية ذات عمد صغيرة رفيعة مثل قصب مجدول تضخمها شرفات على شكل عمامات. رخام أصفر أو أسود وحجارة تكسو السور بتعاقب وتناسق لطيف. أعالي السرو والأشجار الكبيرة الأخرى التي ترتفع في البساتين وفي داخل المدينة تسمو فوق السور والأبراج وتكللها بخضرة قاتمة. وقبب الجوامع والقصور التي لا تحصى في مدينة يقطنها أربعمائة ألف من السكان كانت تعكس أشعة الشمس الغاربة وكانت مياه الأنهر السبعة الزرقاء اللامعة تتلألأ وتختفي الواحدة تلو الأخرى من الشوارع والبساتين. والأفق خلف المدينة كان مثل بحر لا ساحل له فيختلط بالجوانب القرمزية لسماء نارية ما زال يلهبها انعكاس رمال الصحراء الكبيرة، إلى اليمين تلال جبال لبنان الشرقية العالية العريضة التي تبتعد مثل أمواج ظلال ضخمة بعضها إثر بعض تتقدم مثل أنف جبل في السهل حيناً وحيناً تنفتح مثل خلجان عميقة حيث يغرق السهل وغاباته وقراه الكبيرة، التي يبلغ عدد سكانها أحياناً ثلاثين ألفاً. بحيرتان كبيرتان وفروع النهر كانت تظهر هنا في ظلمة صبغة خضرة عامة كأن دمشق غارقة فيها، وإلى يسارنا سهل أكثر انفتاحاً وعلى بعد نحو اثني عشر أو خمسة عشر فرسخاً كانت قمم جبال مكللة بالثلج تلمع في زرقة السماء مثل غيوم الأوقيانوس. تحيط بالمدينة تماماً غابة حدائق من أشجار مثمرة حيث الوالي تتشابك كما في نابولي وتمتد كشرائط زخرفة فيما بين أشجار التين والمشمش والأجاص والكرز. الأرض تحت هذه الأشجار خصبة ومروية دائماً ومفروشة بالشعير والحنطة والذرة وجميع الخضار التي تنتجها هذه التربة. بيوت صغيرة بيضاء تتخلل هنا وهناك خضرة هذه الغابات وتتخذ مسكناً للبستاني أو مكاناً تتنزه فيه أسرة المالك. وفي هذه البساتين خيول وخراف وجمال وحمام وكل ما يشيع حركة في مشاهد الطبيعة. مساحة كل منها "اربنت أو اربنتان" بصورة عامة يفصل بينها جدران من طين مجفف في الشمس أ و من سياج حي جميل، وبين هذه البساتين طرق عديدة ظليلة، وإلى جانبها ساقية ماء جار تؤدي إلى ضاحية بعد أخرى حتى تصل إلى بعض أبواب المدينة. إنها تشكل دائرة قطرها عشرون إلى ثلاثين فرسخاً حول دمشق.
سرنا برهة في أولى متاهات هذه الحدائق صامتين قلقين لأننا ما رأينا الدليل الذي أبلغنا به. فتوقفنا عن المسير، وأخيراً بان لنا أنه أرمني مسكين ثيابه غير جيدة، وعلى رأسه عمامة سوداء. فاقترب دون تصنع من القافلة، فوجه كلمة وأشار إشارة وبدلاً من أن ندخل المدينة من خلال الضاحية ومن الباب الذي كان أمامنا، فقد تبعناه محاذين الجدران حتى كدنا ندور حولها، خلال دهاليز البساتين والأكشاك إلى أن دخلنا من باب مهجور تقريباً قريب من حارة الأرمن التي فيها منزل السيد بودان الذي تكرم بتهيئة مأوى لنا فيه. عند أول باب للمدينة لم يقل لنا أحد شيئاً، وبعد أن اجتزناه سرنا مدة طويلة إلى جانب أسوار عالية لها نوافذ ذات حواجز متشابكة. وفي الجانب الآخر من الشارع قناة ماء عميقة تدير دواليب عدة طواحين. وفي نهاية هذا الشارع اضطررنا إلى التوقف وسمعت شجاراً فيما بين أتباعي من العرب وجنود كانوا يحرسون باباً ثانياً في الداخل لأن لكل حارة باباً خاصاً بها. كنت أود أن أ بقى مجهولاً وأن تمر قافلتنا على أنها قافلة تجار من سورية. غير أن الشجار استمر وعلا الصياح وازداد وأخذ الجمهور يتجمع حولنا، فهمزت حصاني وتقدمت إلى أول القافلة. وكان حرس من الجنود المصريين يمنعوننا من الدخول لأنهم لاحظوا وجود بندقيتي صيد أهمل خدامي العرب إخفاءهما تحت أغطية أفراسي. حاكم دمشق الحالي شريف بك كان أصدر أمراً يحظر إدخال أسلحة إلى المدينة، لأنه كان يخشى أن تقوم فتنة كل ليلة ويذبح الجنود المصريون. ولحسن الحظ كنت أحمل رسالة حديثة من إبراهيم باشا، فأخرجتها وقدمتها إلى الضابط آمر المركز فقرأها ورفعها إلى جبينه وشفتيه وأدخلنا معتذراً ومرحباً كثيراً.
وسرنا زمناً في متاهة أزقة مظلمة ضيقة وقذرة. وكانت تشكل هذه الشوارع بيوت صغيرة وطيئة، جدرانها من طين، كأنها على وشك أن تسقط علينا، وكنا نشاهد من خلال شعريات النوافذ وجوه صبايا أرمنيات فاتنات أسرعن لدى سماعهن ضوضاء قافلتنا وخيولنا، فكن ينظرن إلينا ونحن نعبر ويوجهن إلينا كلمات تحية ومودة. وأخيراً وقفنا عند باب صغير وطيء وضيق في شارع لا يمكن اجتيازه إلا بصعوبة فتجرنا عن خيولنا وسرنا في ممشى معتم ومنخفض وفجأة وجدنا أنفسنا في باحة مبلطة بالرخام تظللها أشجار الجميز ويبرّدها ينبوعا ماء حولهما أقواس من المرمر وأبهاء فخمة الزينة: كنا في منزل السيد بودان.
خصص السيد بودان كلاً منا بغرفة جميلة مؤثثة على طريقة الشرقيين، فارتحنا على متكآته وعلى مائدته المضيافة من عناء طريق طويلة. رجل معروف ومحبوب يصادف وسط جمهور مجهول وعالم أجنبي يكون بمثابة وطن كامل. لقد شعرنا بذلك عندما صرنا في منزل السيد بودان. والساعات الحلوة التي قضيناها في التحدث عن أوروبا وآسيا، في المساء على ضوء مصباحه وسماع خرير نافورة باحته بقيت في ذاكرتي وفي قلبي من أعذب الراحات في رحلاتي.
السيد بودان من الرجال النادرين الذين هيأتهم الطبيعة لكل شيء. ذكاء واضح وسرعة في الخاطر، وقلب مستقيم، حازم، نشيط لا يكل سواء أكان في أوروبا أم آسيا، في باريس أم دمشق، في البر أم البحر فإنه يرتاح لكل شيء ويجد سعادة وصفاء في كل مكان، لأن روحه كروح العربي مستسلمة إلى القانون الكبير الذي يشكل جوهر الدين المسيحي والإسلامي، ألا وهو الخضوع لمشيئة الله، ولأنه يحمل أيضاً في نفسه عقلاً حاذقاً نشيطاً هو روح ثانية للإنسان الأوروبي. تكيفت هيئته ولسانه وعاداته حسبما شاءت لها ثروته أن تتكيف. ومن يراه يتحدث إلينا عن فرنسا وسياستنا المتحركة يظن أنه رجل وصل أمس من باريس وسيعود إليها في اليم التالي. والذي يرى السيد بودان مساءً مستلقياً على متكئه بين تاجر من البصرة وحاج تركي من بغداد، وهو يدخن الغليون أو النرجيلة وحبات المسبحة الشرقية الكهرمان تنساب بين أصابعه ببطء، وعلى جبهته عمامة وفي رجليه بابوج، يقول كلمة كل ربع ساعة بخصوص سعر القهوة والفراء، يظن أنه تاجر رقيق أو حاج عائد من مكة. مامن رجل تام الصفات إلا الذي سافر كثيراً وبدل عشرين مرة شكل فكره ونمط حياته، فالعادات الضيقة الرتيبة التي يتعودها الإنسان في حياته النظامية وفي رتابة وطنه قوالب تصغر كل شيء: الفكر والفلسفة والدين والطبع كل شيء أكبر، كل شيء أعدل، كل شيء أصدق عند من رأى الطبيعة والمجتمع من وجهات نظر عديدة. يوجد وجهة نظر لأجل الكون المادي والثقافي. السفر من أجل البحث عن الحكمة كانت كلمة كبيرة عند الأقدمين، ونحن لم ندرك معناها: ماكانوا يسافرون للبحث فقط عن عقائد غير معروفة وعن دروس في الفلسفة ولكن ليروا كل شيء ويقدروا كل شيء. فيما يتعلق بي يذهلني باستمرار الطريقة الضيقة الهزيلة التي بها ننظر إلى الأشياء والمؤسسات والشعوب. إذا عقلي كبر، وإذا نظرتي اتسعت، وإذا تعلمت التسامح في كل شيء، وفهمت كل شيء فإني مدين بذلك فقط إلى كوني بدلت كثيراً المشهد ووجهة النظر. دراسة القرون في التاريخ والناس في الأسفار والله في الطبيعة تلك هي المدرسة الكبيرة. ندرس كل شيء في كتبنا الحقيرة. ونقارن كل شيء بعاداتنا المحلية الصغيرة: ومن ذا الذي صنع عاداتنا وكتبنا؟! أناس صغار مثلنا. فلنفتح سفر الأسفار ولنعش ولنر ولنسافر: الكون كتاب وكل خطوة نخطوها تقلب لنا صفحة، فماذا يعرف من لم يقرأ سوى صفحة واحدة؟!
ذكريات ومشاعر وأفكار ومشاهد
نيسان 1833 م ـ دمشق
نيسان 1833 م ـ دمشق
تجولت هذا الصباح، وأنا مرتد ثياباً عربية صميمة، في أهم حارات دمشق لا يرافقني سوى السيد بودان خشية أن نلفت الانتباه إلينا وجوهنا غير المعروفة لو كنا جماعة. فسرنا أولاً مدة طويلة في شوارع حارة الأرمن المعتمة القذرة والمتعرجة، كأنها إحدى أبأس قرية في مقاطعاتنا. البيوت مبنية بالطين، تتخلل بعض جدرانها من جهة الشارع نوافذ صغيرة ونادرة مشبكة، درفاتها مدهونة باللون الأحمر. إنها منخفضة وأبوابها أكثر انخفاضاً وشبيهة بأبواب الاصطبلات. كومة من أقذار الشوارع ومستنقعات صغيرة من الماء والوحل في كل مكان تقريباً حول الأبواب، لكننا دخلنا بعض منازل أبرز التجار من الأرمن هناك وقد أدهشتني أبهة هذه الدور وأناقتها من الداخل. بعد أن ولجنا الباب واجتزنا دهليزاً معتماً وجدنا أنفسنا في باحة مزدانة بينابيع تتدفق، وهي من الرخام تظللها شجرتان من الجميز أو الصفصاف الفارسي. وهذه الباحة مبلطة ببلاطات عريضة من حجر مصقول أو من الرخام. الدوالي تغطي الجدران، وهذه الجدران مكسوة بالرخام الأبيض، خمسة أو ستة أبواب دعائمها من الرخام أيضاً منقوشة نقوشاً عربية تؤدي إلى غرف أو أبهاء حيث يقيم رجال العائلة ونساؤها. وهذه الأبهاء رحبة وذات قبب، ولها شبابيك كثيرة وصغيرة مرتفعة جداً لتتيح للهواء الخارجي أن يأتي ويذهب بحرية وبدون انقطاع، وهذه الأبهاء كلها تتألف من قسمين القسم الأول منخفض حيث يقف الخدم والعبيد، والقسم الثاني أعلى من الأول ببضع درجات ويفصل بينهما درابزون من رخام أو من خشب الأرز المقطع تقطيعاً رائعاً. وفي وسط هذه الردهات أو في زواياها فسقية أو فسقيتان يسمع خرير الماء فيهما، حافاتها مزدانة بمزهريات. طيور من السنونو أو حمامات خاصة تأتي بحرية وتقف على جوانب تلك الأحواض لتشرب. جدران الغرف مكسوة بالرخام إلى علو معين. والقسم العلوي مكسو بالجص وعليه رسوم عربية من ألف لون وكثيراً ما تكون مزركشة بنتوءات ذهبية مثقلة جداً. والأثاث مؤلف من سجاد عجمي أو بغدادي بديع يغطي من كل جهة أرض الغرف التي هي من الرخام أو من خشب الأرز، ومن كمية كبيرة من المساند والفرش الحريرية مبعثرة وسط الغرفة وهي تستعمل مقاعد لأفراد العائلة أو مساند لظهورهم. وفي صدر الردهات وعلى جوانبها أرائك مغطاة بأنسجة غالية وبسط غاية في الرقة. النساء والأولاد يجلسون عادة هناك أو يضطجعون وهم يقومون بمختلف الأعمال المنزلية. ومهود الأطفال وسط الغرفة فيما بين هذه السجاجيد وتلك المساند. إحدى هذه الردهات مخصصة دائماً لرب البيت وحده وفيها يستقبل الغرباء. كثيراً ما يُرى جالساً على أريكته وإلى جانبه على الأرض محبرته الطويلة المقبض وورقة مسندة إلى ركبته أو إلى يده اليسرى وهو يكتب أو يحسب كل النهار لأن التجارة هي الشغل الشاغل لسكان دمشق وعبقريتهم الوحيدة.
حيثما ذهبنا لرد زيارات الأمس كان صاحب المنزل يستقبلنا ببشاشة ومودة ويأتينا بالغلايين والقهوة والشراب ويقودنا إلى البهو حيث تجلس النساء. أياً كانت الفكرة التي كونتها عن جمال السوريات وأياً كانت الصورة التي طبعت في ذهني عن جمال نساء روما وأثينا فإن رؤية النساء والصبايا الأرمنيات في دمشق قد فاقت كل شيء. وفي كل مكان تقريباً وجدنا وجوهاً ما رسمت مثلها قط ريشة أوروبية .
والتقيت بصديق لبودان وهو رجل ممتاز ومثقف جداً... مع أنه ما خرج قط من دمشق. عنده أفكار صحيحة موزونة عن الحالة السياسية في أوروبا ولاسيما في فرنسا، عن حركة الفكر الإنساني بصورة عامة في زماننا وعن تحول الحكومات العصرية وعن مستقبل الحضارة المحتمل. ما صادفت في أوروبا رجلاً كانت نظراته بهذا الخصوص أصح وأذكى: ومما يثير العجب أنه لا يعرف سوى اللغة اللاتينية واليونانية، وإنه ما استطاع قط أن يقرأ تلك المؤلفات والصحف الغربية حيث جُعلت هذه المسائل في متناول حتى الذين يكررونها دون أن يفهموها. وما أتيحت له يوماً فرصة للتحدث مع رجال ممتازين من مناطقنا. دمشق بلد لا علاقة له بأوروبا، وقد فهم كل شيء بواسطة خارطات جغرافية وبعض الحوادث التاريخية والسياسية التي وصلت أصداؤها إلى هنا، وإن عبقريته الطبيعية والتأملية قد فسرتها بفطنة عجيبة. لقد سحرني هذا الإنسان، لقد أمضينا قسماً من الصباح ونحن نتحادث، وسوف يأتي هذا المساء وكل يوم. إنه يتبين مثلي ماذا تهيء العناية الإلهية كما يبدو للشرق والغرب من تقارب حتمي بين هذين القسمين من العالم اللذين يفسحان لبعضهما بالتعاون من مدى وحركة وحياة ونور. له ابنة في الرابعة عشرة من عمرها وكانت أجمل شخص رأيناه، والأم صغيرة أيضاً وفاتنة مثلها. وقدم لي ابنه البالغ من العمر اثنتي عشرة سنة، وتربية هذا الولد تشغله كثيراً. فقلت له: "كان عليك أن ترسله إلى أوروبا ليتلقى تربية كالتي تأسف أنت لعدم توفرها لك". فأجابني، سأراقب تربيته. ياللأسف! إني أفكر في ذلك دون انقطاع، كثيراً ما فكرت فيها، ولكن إذا كانت حالة الشرق لم تتغير حتى الآن فأي خدمة أكون قدمت لابني برفعه عالياً بمعارفه فوق زمانه وبلده حيث يجب أن يعيش؟ ماذا يصنع في دمشق عندما يعود إليها بما اكتسبه في أوروبا من المعارف والأخلاق وتذوق الحرية؟.. إذا كان يجب على الإنسان أن يكون عبداً فمن الخير له أن لا يكون أبداً إلا عبداً".
بعد هذه الزيارات المختلفة غادرنا حارة الأرمن المنفصلة عن حارة أخرى بباب يقفل كل مساء. وجدت شارعاً أعرض وأجمل وهو مؤلف من قصور أهم أغوات دمشق، إنهم نبلاء البلد. واجهات تلك القصور من ناحية الشارع تشبه جدران سجون طويلة أو مآوٍ، وهي من طين رمادي، النوافذ فيها نادرة أو معدومة. كنا نصادف من وقت لآخر بوابة كبيرة مفتوحة على باحة، وكنا نرى عدداً من السوّاس والخدم والعبيد السود مضطجعين في ظل الباب. لقد زرت صديقين للسيد بودان من هؤلاء الأغوات.
وتجولت في أسواق دمشق. السوق الكبيرة يبلغ طولها تقريباً نصف فرسخ أي نحو كيلو مترين. والأسواق شوارع طويلة مسقوفة بأخشاب مرتفعة جداً، وعلى الجانبين حوانيت ومخازن ومقاه ودكاكين صغيرة ضيقة وقليلة العمق. التاجر يجلس القرفصاء أمام دكانه وهو يدخن الغليون أو النرجيلة التي إلى جانبه. المخازن ملأى دائماً بالبضائع من كل نوع ولاسيما من أقمشة الهند التي تتدفق على دمشق بواسطة قوافل بغداد. الحلاقون يدعون المارة إلى حلق شعورهم. دكاكينهم مكتظة دائماً بالزبائن. جمهور كبير يمر كل يوم بالسوق كالجمهور الذي يمر بكالوري القصر الملكي. لكن نظرة هذا الجمهور الخاطفة لا نهاية لروعتها. إنهم الأغوات لابسون عباءات من حرير قرمزي مبطنة بفرو السمور، ومتقلدون السيوف والخناجر المرصعة بالألماس المعلقة بالزنار، ويتبعهم خمسة أو ستة من البطانة أو الخدم أو العبيد الذين يسيرون خلفهم وهم يدخنون صامتين. يمضي أولئك الأغوات إلى المقاهي المبنية على جانب السواقي التي تخترق المدينة فيجلسون على المقاعد الخارجية تحت ظل أشجار الدلب الجميلة حيث يقضون قسماً من النهار فيدخنون ويتحادثون مع أصحابهم وهذه هي الطريقة الوحيدة للاتصال فيما بين سكان دمشق باستثناء الجامع حيث تُهيّأ في صمت تقريباً الثورات المتكررة التي تخضب هذه العاصمة بالدم..
كل نوع من أنواع التجارة والصناعة له محله الخاص في السوق فهنا دكاكين صناع الأسلحة الذين لا يقدمون أسلحة كالأسلحة العظيمة المشهورة التي كانت دمشق تقدمها قديماً لتجارة الشرق. مصانع السيوف المدهشة التي كانت دمشق تقدمها قديماً لتجارة الشرق. مصانع السيوف المدهشة إن وُجدت في دمشق حقاً فقد أصبحت في عالم النسيان.
لا تُصنع هنا إلا سيوف من معدن مسقي سقاية عادية ولا يُرى عند بائعي الأسلحة سوى أسلحة قديمة لا قيمة لها. عبثاً بحثت عن سيف أو خنجر من السقاية القديمة. هذه السيوف تأتي اليوم من خراسان، مقاطعة فارسية، حتى تلك الأسلحة لا تصنع هنا ولا يوجد منها إلاعدد قليل تتلقفه الأيدي مثل الذخائر الثمينة وقيمتها لا تقدر. نصف السيوف الذي أُهدي إليَّ قد كلف الباشا خمسة آلاف قرش. الأتراك والعرب يقدرون هذه النصول أكثر من الماس ويضحون بكل شيء في العالم من أجل اقتناء سلاح كهذا. يطير الشرر من نظراتهم حماسة واحتراماً عندما تقع على نصل سيف فيرفعونه إلى جباههم كما لو كانوا يعبدون آلة للموت كاملة إلى هذا الحد.. ثم يأتي لامارتين على وصف محلات الصياغة وصناعة السروج والصناديق والمأكولات والمطاعم.. وخان أسعد باشا... والجامع الأموي... وأطلال البيت الذي هرب منه القديس بولس... ويتطرق إلى وصف إعصار هائل هب في دمشق وطقسها البارد من جراء الأمطار والثلوج...
غادرنا دمشق في الساعة الثامنة صباحاً فاجتزنا المدينة والأسواق المزدحمة بالناس، وسمعنا تذمرات وبعض العبارات المهينة لاعتبار الناس أننا جئنا لدعم إبراهيم باشا. خرجنا من المدينة من باب غير الباب الذي دخلنا منه وسرنا في محاذاة بساتين بديعة في طريق على حافة سيل تظلله أشجار عالية، وتسلقنا الجبل الذي منه أطللنا على منظر دمشق الجميل. وتوقفنا لنتأملها مرة أخرى، ونحمل معنا في أذهاننا صورتها الخالدة. أفهم أن التقاليد العربية تجعل من دمشق مكان الفردوس الضائع. مامن مكان آخر في الدنيا يذكَّر بعدن أفضل تذكير. السهل الواسع الخصب، فروع النهر الأزرق السبعة التي ترويه، الإطار الجبلي المهيب، البحيرات المدهشة التي تعكس السماء على الأرض، المركز الجغرافي بين بحرين، كمال المناخ، كل شيء يدل على أن دمشق كانت على الأقل إحدى أوائل المدن التي سكنها أبناء البشر، ومكان قيلولة طبيعية للإنسانية التائهة في الأزمنة الأولى. إنها من تلك المدن التي كتبها الله بإصبعه على الأرض، عاصمة مقدرة مثل القسطنطينية. إنهما المدينتان الوحيدتان اللتان وضعتا على خارطة الامبراطورية بصورة كيفية بل دل عليهما بصورة لا تقاوم شكل الأمكنة. مادام في الأرض امبراطوريات ستكون دمشق مدينة كبيرة واسطنبول عاصمة العالم. عند مخرج الصحراء وعند انفتاح سهول سورية وأودية الجليل وشاطئ بحار سورية كان لابد من مكان للراحة ساحر لقوافل الهند، إنه دمشق.
وألقيت نظرة أخيرة إلى دمشق مع تمنيات قلبية للسيد بودان والأشخاص الطيبين الذين حمونا فيها وسحروا أيام إقامتنا، وما إن خطت خيلنا بضع خطوات حتى توارت عن أعيننا رؤية قمم ومآذنها إلى الأبد أشجارها
شي نفيس اخي بسام
ردحذفآه لو كانت مسهبة ..مع هذا الوصف الرائع ..لكأننا نشاهد سامنا صورة و صوت .